حريص عليكم…إرساء قيم الاعتدال والوسطية( 5)…🖋بقلم الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرقاوي رئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم بقطاع المعاهدالأزهرية
الجمعة 14-11-2025 12:55
إن التنوع نماءٌ وسَعة فضلًا عن كونه تخفيف ورحمة، ومن ثم فإن تعدد المذاهب الفقهية وتنوع المدارس الفكرية والعلمية إنما هو مصدر ثراءٍ ونماء، ولم يكن أبدًا سبيلا للفرقة أو التباعد، وهذا مرجعه إلى إدراك الأمة الحكيمة أن الاختلاف تخفيف ورحمة، بيد أن وقائع العصر الحالية وأحداثه الجارية قد تتسبب – أحيانا- في تحويل هذا الثراء الفكري والنتاج العلمي إلى خصومة مذهبية، وتناقضات فكرية وفلسفية، تحاول أن تنال من مبادئ الوسطية الحقة وقواعد الاعتدال المعتبرة في دنيا الشريعة الغراء، لتخلق من دائرة الاختلاف في الفروع سببًا للتنازع في الأصول، فغابت بذلك بعض مظاهر التسامح، وتوارى المقصد الأعظم من الشريعة، وبرزت على الساحات المجتمعية والدينية نزعات ضيقة، جعلت كل فريق يدّعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، واشتعلت على إثر ذلك معارك فكرية أنهكت الأمة بعض الشيئ، وصرفت طاقتها عن رسالتها الحضارية الكبرى، وقد عدل الناس عن العدل، وهنا يكمن الخطر الجسيم والتحدي العظيم، الذي يواجه الوسطية الإسلامية، ويناقض قواعدها الرئيسة، ويعارض مقاصدها العليا، إذ أصبح صوت الدعوة إلى التعاون والتآلف صوتًا خافتًا في زحام الأصوات العالية المتناحرة، وعليه فقد غدا الدفاع عن الوسطية دفاعًا عن وحدة الأمة ذاتها، ومع ذلك فإن المستقبل يبشّر بوعيٍ جديدٍ بدأ ينمو بين شباب الأمة، ويدرك أن السلم والسلام لا يتحققان بالخصومة والتنازع، بل بالتعارف والتآلف، وأن التنوع ليس نقيض الوحدة، بل هو نضج أمة وإثراء شهادة؛ إعمالا لقوله تعالي: ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”- سورة البقرة آية 143-، واليوم ونحن في عصر ما بعد الحداثة نحتاج في العالم العربي والإسلامي لأن نقف صفًا واحدًا؛ لإرساء قيم الاعتدال والوسطية، من أجل تجديد الخطاب الديني، وتوحيد الكلمة، التي تجمع ولا تفرق، وتعمّر ولا تخرب؛ صونًا للعقول عن الخلل وحماية للأفكار من الزلل؛ لذا فقد وجب أن تكون لدينا أفقًا واعدة؛ لنهضة فكرية جامعة، تُعيد للدين الحنيف وجهه المشرق، وبهاءه الصافي، ومعينه العذب، استبقاء لنقائه، واستدامة لعطائه، وبسطا لاعتدال مبادئه ووسطيته، وإعلاء لكلمة الحق وثمرته، ونشرا لقيم العدل وإرساء قواعده، وبيانًا لعظمة هذا الدَّين ورحمته، قال الله تعالي في شأن نبيه- صلى الله عليه وسلم-: ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “- سورة الأنبياء آية 107-، وقال- صلى الله عليه وسلم- : ” لن تؤمنوا حتى تراحموا قالوا يا رسول الله كلنا رحيم قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة” (رواه الطبراني)، ويقول أيضا : ” المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس علي أموالهم وأعراضهم”، وبناء عليه أقول إن اختلاف وجهات النظر أو تباين آليات العمل لا يفسد لقضية الوسطية ودًا ولا يقطع للأخوة الإنسانية رحمًا، بل إن التعاون في سبيل إعلاء قيم الحق والعدل وإرساء مفاهيم الوسطية الحقة، هو الذي يناسب شريعة التخفيف والرحمة، ولقد شهدت أمتنا الإسلامية عبر عصورها المختلفة فئات ظنت أن حفظ الدِّين لا يكون إلا بالتضييق على الناس، وأن الغيرة عليه تعني إغلاق أبواب الاجتهاد أو تجفيف منابع الرحمة، فغاب عنهم أن شريعة الإسلام إنما جاءت من أجل رعاية مصالح العباد وإعمار البلاد، فهي عدل كلها ورحمة كلها ومبناها على الحِكَم والمصالح، وأن مقصدها الأعظم إنما هو التيسير لا التعسير، فحينما يُقدَّم الشكل على الجوهر، والحرف على المقصد، والجمود على الحركة، يتحول الدِّين من رسالة حياة إلى قيد خانق، ومن ثم يغدو الخطاب الديني وكأنه أداة نفور وغلظة بدل أن يكون سبيل رشد وهداية، واليوم إذ يتجدد الوعي بأن الوسطية ليست خروجًا عن الدِّين، بل عودة إلى نقاء روحه وصفاء مصدره، فإن المستقبل يحمل الأمل في استعادة هذا الفهم الرشيد، لذا؛ ينبغي على المؤسسات العلمية والدينية أن تقود مشروعًا فكريًا متوازنًا يعيد للعقل حيويته وللنصوص مرونتها في تفاعلٍ راشد بين الثابت والمتغير، ولا شك في أنَّ التَّمسك بما يقوم عليه الأزهر الشريف في شأن حرصه القويم على بيان العلم وقواعد الدِّين إنما هو نوعٌ من التدابير الشرعية والعملية الرئيسة، التى تسهم قطعًا في حماية النِّظام الإنساني العام، فما أحوجنا في هذه الظروف الراهنة إلى تجلية التراث الإسلامي، ودراسته، وتصويب الأفهام نحو سعَة الشريعة الغراء، واتساع قواعدها الكلية، وشمول أحكامها للنوازل المستجدة، على نحو يحفظ الإنسان في نفسه وعرضه ماله، ويسهم في بَسْط العدالة المجتمعيَّة، وسيادة الأمن والأمان في دنيا الإنسانية.
وبناء علي ما تقدم: أقول إن الوسطية والاعتدال أصلان لكل تقدم ورقي، ومصدران لكل سعادة وهناء، وأن التشدد والتطرف أصلان لكل غمّ وجهل وعناء، ومصدران لكل نقمة وظلم وشقاء.
إن الوسطية في هذا السياق ليست تساهلًا ولا تمييعًا، بل هي فقه دقيق يدرك أن الجمود خيانة لروح الشريعة، وأن مراعاة المقاصد ليست ترفًا فكريًا، بل هي جوهر الدِّين ومعناه، يقول الإمام القرافي- رحمه الله من علماء القرن السابع الهجري- ” إن الجمود على المنقولات أبدا نوع من الضلال في الدِّين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين “، لقد كانت أمتنا في أمتن قوتها حين اجتمع فيها العلم بالمقاصد مع الاجتهاد في الفروع، فكان العلماء الأكابر والفقهاء الحكماء يجتهدون في فهم النصوص بميزان المصلحة والعدل والرحمة لا بحدّ الظاهر الجامد.
هذا، وإن المستقبل المشرق في عصرنا الحالي مرهون بقدرتنا على تخريج جيل من العلماء يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين عمق التراث وفقه الواقع، جيلٍ يُعيد للإسلام صفاءه الأول بوصفه رسالة عدل ورحمة وحكمة تهدي الإنسان إلى التوازن بين العقل والوجدان، وبين النص وروحه، وبينما الحرية في جوهرها نعمة ربانية تُعلي كرامة الإنسان وتمنحه القدرة على الاختيار، تحولت في بعض الثقافات الحديثة إلى شعارٍ يُستخدم لتبرير التمرد على كل مرجعية دينية، حتى على الخالق- سبحانه- فلم يعد الإلحاد المعاصر – المباشر والرقمي- مجرد إنكارٍ فلسفي لوجود الله كما كان في عصور المادِّيين، بل أصبح ظاهرةً ثقافيةً وإعلاميةً تتخفّى وراء شعارات براقة كـ “تحرير الإنسان” و”إطلاق العقل”، فيُقدَّم الدِّين وكأنه قيدٌ على الإبداع، ويُصوَّر الإيمان على أنه خصمٌ للتقدم. ووسط هذا التيار الجارف تتعرض الوسطية الإسلامية لهجومٍ مزدوج: من المتشددين الذين يُضيّقون على العقل باسم الدِّين، ومن اللادِينيين الذين اسبتعدوا الدين باسم الحرية، وكلا الطرفين يُفرغ الدِّين من جوهره ومعناه، ويقضي على التوازن الذي جاء به الإسلام الحق، إن الوسطية هي التي تحفظ للعقل مكانته دون إلغاء لدور الوحي، وتجمع بين نور البرهان وصفاء الإيمان، بين إعمال الفكر وتسليم القلب. فهي تؤمن بأن الحرية ليست انفلاتًا من كل قيد، بل تحررًا من عبودية الهوى والشهوة والمصلحة، وأن العقل إذا تجرد عن الهداية الإلهية ضلّ، كما أن الإيمان إذا انقطع عن نور العقل تجمد، واليوم ونحن نرى الشباب المسلم في صراعٍ بين المادية الجافة والروحانية الغائبة، تبرز مسؤولية المؤسسات الدينية والفكرية في بناء خطابٍ جديدٍ، يجمع بين لغة العلم ولغة الروح، بين منطق الفلسفة ودفء التجربة الإيمانية، إن مستقبل الوسطية في مواجهة التحديات العصرية مرهون بقدرتها على تقديم أنموذجٍ متكاملٍ للحرية المؤمنة، والعقل الهادئ، والإيمان الواعي، الذي يثبت أن الإسلام لا يعادي العلم ولا يقمع الفكر، بل يزكي ذلك في سياقه المعتبر له شرعا وواقعا، ليكون طريقًا لمعرفة الله تعالي، وإعمار أرضه، بسطًا لعدله في كونه، وإيصالًا لخيره إلى خلقه.
إننا بحاجة إلى وسطيةٍ مستديمة تمتد إلي أرجاء العالم بأسره، تحفظ للدِّين أصوله وثوابته، وتبيٍّن للناس أن سَعَة رحمته في تنوع مذاهبه، وكمال اعتداله في اختلاف قواعده وتباين مدارسه، وسطيةٍ تبني العقول على المنهج لا على الموقف، وتربي القلوب على الرحمة لا على الغلظة، وتعلّم الناس أن التعدد لا يفسد الوحدة، وأن الخلاف في الرأي لا يلغي الأخوّة في الإيمان.
إن المستقبل الذي ننتظره في ظل الحرص على تعزيز قيم الاعتدال والوسطية ليس نظريًا، بل مشروع عملي تشترك فيه المؤسسات العلمية والفكرية والإعلامية والتربوية؛ لتعيد بناء الإنسان المسلم، القادر على الفهم والنقد والتمييز بين الغث والثمين، وهذا لا يتأتي إلا إذا جعلنا من الوسطية منهج حياة، ومن الاعتدال رؤية للعالم، ومن القيم الإسلامية الكبرى منطلقًا للتجديد والإصلاح، نسأل الله – عز وجل – أن يوفقنا جميعًا إلى أن نكون أمناء على هذه الرسالة، وأن يُلهمنا الرشد والحكمة في زمن التيه، وأن يُبقي أمتنا منارة للحق والعدل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
🖋بقلم الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرقاوي
رئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم بقطاع المعاهدالأزهرية



