دكتور/محمود عبد الدايم الجندى يكتب:الهجرة النبوية دراسة تطبيقية على بناء المجتمعات وإدارة الأزمات مع عرض بعض الدروس المستفادة منها.
السبت 28-06-2025 10:17

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
•تُعدّ الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة محطة فارقة في تاريخ الإسلام، ليست مجرد انتقال مكاني، بل هي حدث يحمل فى طياته دروسآ عظيمة فى بناء المجتمعات، وادارة الأزمات، وتحقيق الأهداف من خلال التخطيط والعمل الجماعي .
أولًا: الأسباب والدوافع للهجرة:
1. شدةالأذىوالاضطهاد في مكة.
2. الحاجة إلى بيئة آمنة لنشر الدعوة الإسلامية.
3. إيجاد مجتمع جديد يُبنى على أساس الإيمان والعدل.
* التطبيق العملي:
•ضرورة الانتقال بالمشاريع أو المؤسسات من بيئات غير داعمة إلى بيئات أكثر احتضانًا.
* مواجهة التحديات والصعوبات بالسعي لإيجاد حلول عملية.
—————
ثانيًا: التخطيط الدقيق للهجرة:
لم تكن الهجرة عشوائية، بل اعتمدت على:
•اختيار الصحبة (أبو بكر الصديق رضي الله عنه).
•اختيار الطريق غير المعتاد.
•تجهيز التموين (أسماء بنت أبي بكر).
•جمع المعلومات (عبدالله بن أبي بكر).
•التمويه والمتابعة (عامر بن فهيرة).
•اختيار دليل ماهر (عبدالله بن أريقط).
•التطبيق العملي:
١.التخطيط هو أساس نجاح أي مشروع أو هدف.
٢.أهمية توزيع الأدوار بين فريق العمل بناء على الكفاءة.
٣.المرونة في اختيار الطرق غير التقليدية لتحقيق الأهداف.
—————-
ثالثًا: بناء المجتمع في المدينة:
١. بناء المسجد: مركز الدين والتعليم والإدارة.
٢. المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: تعزيز التماسك الاجتماعي.
٣. وثيقة المدينة: أول دستور ينظم العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة دينيًا وعرقيًا.
* التطبيق العملي:
المؤسسات تحتاج إلى مراكز تجمعها حول القيم والرؤية المشتركة (مثل المسجد في المدينة).
تطبيق مبدأ التكافل الاجتماعي في المؤسسات والمجتمعات.
صياغة قوانين وأنظمة واضحة تحفظ الحقوق وتحدد الواجبات.
—————–
رابعًا: إدارة الأزمات أثناء الهجرة وبعدها:
•الصبر والثقة بالله مع اتخاذ الأسباب.
•تعزيز الأمن المجتمعي في المدينة.
التطبيق العملي:
•لا يكفي الإيمان بالهدف، بل لا بد من الأخذ بالأسباب والتدابير الواقعية.
•أي إدارة ناجحة تحتاج إلى خطط للطوارئ والاستجابة السريعة للأزمات.
————
•أما عن الدروس المستفادة من الهجرة فمنها:
١. التضحية:
* فهذا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلَّم – يضطرُّ إلى مغادرة بلده الذي وُلِد فيه وترعرع، وترك أقرباءه وعشيرته، فقال وهو يغادرها بِنَبْرة من الحزنِ: ((واللهِ إنَّك لَخيْر أرْض الله، وأحبُّ أرْض الله إلى الله، ولوْلا أنِّي أُخْرِجْت منْك ما خرجْتُ))؛ “ص. الترمذي”.
٢.لا لليأس:
لقد مكثَ النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – في مكة مدَّةً من الزَّمن، يدعو قومه إلى الهدى، فما آمن له إلاَّ قليل، بل عاش الاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، ومضى يبحث عن حلول بديلة، فكان أنْ خرَجَ إلى الطائف، باحثًا عن أرض صالحة للدَّعوة، لكنْ وُوجِهَ هناك بأقسى مِمَّا توقَّع، فأُوذي وأُهين، وقُذِف بالحجارة، وخرج من الطَّائف مطرودًا مُهانًا وقد تَجاوز الخمسين، ولكن أشد ما يكون عزيمة على مُواصلة رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، ويقول: ((ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي))؛ “ص. ابن ماجه”.
فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى فتح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى والثَّانية، وكانت سفارة مصعب بن عمير إلى المدينة، الذي هيَّأ التُّربة الصالحة لاستمرار الدَّعوة، وتكوين الدَّولة في المدينة النبويَّة، فكانت الهجرة تتويجًا لِعَمَل دؤوب، وصَبْر شديد، وحركة لا تعرف الكلل أو الملل.
٣.حسن الصحبة:
حيث تجلَّت في أبْهَى صُوَرِها مع أبي بكر الصدِّيق، الذي ذهب كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّه هو المقصود بالْمُصدِّق في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ [الزمر: 33]، لَمَّا قال النبي – صلى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي أُريتُ دار هجرتكم ذات نَخْلٍ بين لابتين)) وهُما الحرتان؛ “البخاري”، تَجهَّز أبو بكر، فقال له النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم -: ((على رِسْلِك؛ فإنِّي أرجو أن يُؤْذَن لي))، فقال أبو بكر: “وهل ترجو ذلك بأبِي أنت؟” قال: ((نعم))، فحَبَسَ أبو بكر نفْسَه على رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – لِيَصحبه، فانتظر أربعة أشهر يعلف راحلتَيْن كانتا عنده، حتَّى أذن الله بالهجرة، فلما أخبَره النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – لَم يُصدِّق أنْ يكون صاحِبَ رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – حتَّى قال: “الصحبةَ بأبي أنت يا رسول الله؟” قال رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم -: ((نعم))، قالت عائشة – رضي الله عنها -: “فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحدًا يبكي من الفرح، حتَّى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذٍ”؛ البخاري.
وعندما خرجا معًا، كان أبو بكر يتقدَّم النبِيَّ – صلى الله عليه وسلَّم – في ترَصُّد الأمكنة؛ حتَّى لا يصيبه أذًى، فسأله النبي – صلى الله عليه وسلَّم – قائلاً: ((يا أبا بكر، لو كان شيء، أحببتَ أن يكون بك دوني؟))، فقال أبو بكر: “والذي بعثك بالحقِّ، ما كانَتْ لتكون من مُلِمَّة إلاَّ أن تكون بي دونَك”، فلما انتهَيا إلى الغار، قال أبو بكر: “مكانك يا رسول الله، حتَّى أستَبْرِئ لك الغار”؛ رواه الحاكم في “المستدرك”، وقال الذَّهبي: صحيح مُرسل.
٤.هجرة المعاصى والعصاة وهجرة القلوب إلى الله:
* هجرة المعاصي وما يُعْبَد من دون الله، قال تعالى: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، وقال – صلى الله عليه وسلَّم -: ((الْمُسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجر ما نَهى الله عنه))؛ متَّفَق عليه.
* هِجْرة العصاة، ومُجانبة مُخالطتهم، قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، وهو الذي لا عتاب فيه.
* هجرة القلوب إلى الله تعالى، والإخلاص في التوجُّه إليه في السرِّ والعلانية، قال النبي – صلى الله عليه وسلَّم -: ((فمَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لِدُنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ متفق عليه.
* الخاتمة:
تُظهر الهجرة النبوية أن النجاح لا يتحقق بالصدفة، بل بالتخطيط الدقيق، وتوزيع الأدوار، والصبر على المصاعب، والإيمان العميق بالقيم والمبادئ. وهي نموذج عملي يمكن للمؤسسات والمجتمعات اليوم أن تحتذي به في تحقيق أهدافها وبناء مستقبلها.
نسأل الله أن يوفقنا للسير على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم في بناء مجتمعات قائمة على العدل والتعاون والإيمان الصادق .