ads
رئيس التحرير
ads

الناقد«عبد الرحيم الكردى» ينعى صديقه ويموت وهو يلقى شعره على خشبة المسرح

الجمعة 24-02-2023 16:10

كتب

كتب:محمود الضبع 
بينما كان الدكتور «عبدالرحيم الكردى» على منصة المركز القومى للترجمة يلقى كلمته الرائقة فى تأبين شيخ المترجمين الراحل «محمد عناني» صبيحة الأحد 12 فبراير 2023، وبعد انتهائه استأذن الجمع فى دقيقتين يلقى فيهما قصيدة من إبداع الراحل، وقدمها قائلا: رغم أنها ليست أجود شعره، لكنها معبرة، ولم نفهم جميعا لماذا هى معبرة؟ لأنها كانت أشبه برثاء النفس… وقبل أن يكملها صمت لحظة تخيلنا جميعا أنه صمت متأثرا بما يقول من شعر، ثم مال على جنبه وسقط أرضا ليلفظ أنفاسه الأخيرة.

مشهد رآه الكثيرون عبر البث المباشر لمواقع السوشيال ميديا، وبعضهم لم يكن يعرف من هو هذا الذى لم يكن يملأ الدنيا ضجيجا من حوله، لكنه على الرغم من ذلك استطاع الإعلان عن حضوره بالموت.

بالفعل كان الرجل هادئا وديعا طوال حياته، يعمل أكثر مما يتحدث، ويخلص للعلم والتعلم أكثر من إخلاصه لحياته، ويمكن القول بالفعل: إن كل من عرفه قد صادقه، وإن كان لا يمكن لأحد الإجابة عن سؤال: كيف بدأت هذه الصداقة؟.

الواقع أن هناك أصدقاء قليلين لا نعرف متى وكيف بدأت علاقتنا بهم؟ وكيف تسللوا إلى حياتنا واحتلوا هذه المكانة التى أنضجها الزمن، وعززتها تفاصيل ومداخل كثيرة يصعب حصرها. كثيرون سألونى وكانوا صادقين: كيف نشأت بينك والدكتور الكردى صداقة، وكل منكما شخصية مختلفة تماما عن الآخر (عالم متمكن هادئ رصين، ومتعلم ثائر متمرد)، إضافة للفارق الزمنى بينكما بما يقرب من الربع قرن؟

وبدا لى بعد تأمل أن الأمر كله يكمن فى كلمة واحدة هى «الجوهر»، وكما هو معروف فجوهر الشيء ـ بالمعنى الفلسفى هو المفهوم المكون للأمر ذاته وليس المفهوم فى موضوع محدد، أى أنه النواة الأساسية المشكلة لهذا الموضوع..

فماذا كان الجوهر الذى جمعنا؟ هل هو مساحة الاهتمام المشترك؟ الاهتمام الذى لا يعنى بالعلم والمعرفة والمعلومات، وإنما بالتفكير فيما وراء التفكير.

أم هى النشأة المتشابهة الظروف؟ فكلانا نشأ فى صعيد مصر ولا تزال تربطه جذور به، إلى الدرجة التى كان يروق لنا أن نتحدث بلهجة صعيدية فى كثير من الأحيان عندما نكون منفردين، وبخاصة عند استدعاء قصص الحكمة وتصاريف الزمن فى حكايات الصعيد الموروثة وعاداته وتقاليده ومواويله وأمثاله وشخصياته الاعتبارية.

أم هو «الوعي» الذى يمثل قضية أساسية فى حياتنا؟

يبدو أن هذه الأمور مجتمعة وغيرها كثير هى التى جمعت بيننا: فنقد العقل العربى مثلا، كان يمثل حوارا مشتركا احتل مساحات واسعة من نقاشاتنا، منطلقين فيه من قراءة محطات العقل العربى عبر مراحله، ومتأملين لعلاقة الآداب والفنون فى كل عصر بنهضة المجتمعات وتأخرها. العلاقة بالتراث على اختلاف حقوله المعرفية (الإنسانية والتجريبية والأدبية والفنية)، كان يمثل موضوعا مشتركا، وهما مؤرقا، فى زمن يهيمن عليه منطق الاستهلاك وتفكيك كل المرتكزات (السيولة بكل أبعادها بوصفها فلسفة حاكمة للكون من حولنا الآن).

التراث ـ الذى كان متمكنا فيه ويفوقنى بمراحل بحكم نشأته الأزهرية، وتكوينى فى كلية دار العلوم التى تعلى من شأن التراث- كان موضوعا للنقاش، لأن كلينا لم يكتف بما درسه، وما توارثه، ولكنا أعدنا قراءته عبر مراحل حياتنا، ثم قراءة إعادة تشكيله عبر مشروعات محمد عابد الجابري، ومالك بن نبي، وغيرهما… وفى أخريات حياته كان الدكتور الكردى يبلور نظرية جديدة تحدث عنها فى آخر لقاء له بندوة «نحن والتراث» فى الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، اجتمعنا فيها مع الدكتور المبدع محمد حسن عبدالله، وطرح فيها الدكتور الكردى أبعادا حول نظريته فى «فقه المقاصد».

المنهج ونقد المنهج فى علاقته بواقعنا العربي، وكيف كانت الفرصة سانحة أمام الثقافة العربية لبلورة أبعاده فى الكتابات التنظيرية للتوحيدى وابن سينا وابن عربى وغيرهم، وكيف انحرف المسار فى ثقافة وفكر ما بعد الاستعمار.

قضايا أساسية، وموضوعات فرعية نتجت عنها، مثلت هذا المشترك الذى كنا نتأمله ونحلله فى صحبة يصعب وصفها، لأنها لم يكن يداخلها على الإطلاق مناقشة الأحداث، ولا سير الآخرين، وإنما كانت فقط حول الفكر والأفكار وكأنما ما بيننا من فارق زمنى طويل هو حالة من التكامل وليس التنافر.

كلانا كانت له حياتان: واحدة داخل الجامعة، يمارس فيها العمل الأكاديمى بإستراتيجيات تحاول تفكيك الوعى وليس توصيل المعلومات. وأخرى خارج الأكاديمية، يمارس فيها مفهوم الثقافة والإبداع، ويحاول الوقوف على تحليل أبعادها، سواء عبر الكتابة أو المشاركات فى الفعاليات الثقافية.

وكلانا يحاول عبثا عبر ذلك إحداث جسور التواصل بين الحياتين، عبر محاولة إيجاد منهجية وليس منهجا، لقراءة الواقع والانطلاق منه للبحث عن سبل للخلاص.

وهنا لا يمكن الحكم بالنجاح أو الفشل على المحاولة، لأن المحاولة فى حد ذاتها شرف، لكن ربما تكون الدراسات والأبحاث والمؤلفات والأنشطة معيارا للحكم، وهو ما سيثبته الزمان أو ينفيه.

سبقنى الدكتور الكردى بعمر زمني، وبإنجازات سيصعب ويستحيل على مثلى أن يصل إليها مهما طال به الزمن، فقد استطاع ريادة الدراسات السردية العربية كما تنوعت مؤلفاته وكتبه بين تحقيق التراث، وأدب الطفل، والمناهج النقدية، أما عن الدراسات والأبحاث، فيصعب حصرها، ..لقد ترجل الفارس عن صهوة جواده، لكنه ترك وراءه علامات ومحطات فكرية ستظل باقية تؤكد أنه قد مر من هنا فارس حمل رسالة وأداها بكل أمانة.

المصدر:بوابة الأهرام

ads

اضف تعليق