ads
رئيس التحرير
ads

كلمتي في مكتبة محمد بن راشد بدبي ستة أسباب تجيب عن السؤال: لماذا نعود لقراءة نجيب محفوظ  ؟… ناصر عراق

الجمعة 16-12-2022 15:50

كتب

الكل يعلم أن نجيب محفوظ يحتل أكرم ركن في تاريخ الأدب العربي، لا في القرن العشرين فحسب، بل أظن أن تأثيره سيمتد أيضًا إلى عقود وعقود أخرى، إذا كان مقدرًا على البشرية أن تواصل مسيرتها فتعمل وتفكر وتكتب، فالرجل ترك لنا إرثًا إبداعيًا بالغ الفرادة والحلاوة والعمق، الأمر الذي يسمح لهذا الإرث المدهش بالانتقال بيسر وسهولة من قرن إلى آخر ليسعد الأجيال القادمة ويمتعها.
في ظني أن ثمة ستة أسباب رئيسية تجيب عن سؤال هذه الجلسة: لماذا نعود لقراءة نجيب محفوظ؟ والأسباب الستة هي:
1- عكف نجيب محفوظ بدأب على تعزيز فن الرواية العربية، صحيح أن هناك من خاض بحر الرواية قبله أمثال محمد حسين هيكل صاحب زينب، وطه حسين وكروانه وتوفيق الحكيم وعودة الروح، غير أن هذه الروايات كانت مثل المدخل الأول لقصر الرواية العامر بالغرف والقاعات والبساتين، لكن محفوظ هو الذي تولى تعمير هذا القصر الباذخ بمنجزه الروائي العظيم، فقد كتب 35 رواية منذ روايته الأولى (عبث الأقدار) عام 1939، حتى روايته الأخيرة (قشتمر) سنة 1988، والتي كان ينشر فصولها كل جمعة في جريدة الأهرام المصرية، وفي أثناء هذا النشر حصل على جائزة نوبل في لحظة تاريخية إبداعية فارقة.
2- تنهض روايات محفوظ في مجملها على عدة أفكار جوهرية شغلت، ومازالت، بال الإنسان في كل زمان ومكان، مثل كيفية تحقيق العدالة وضرورة نشر الحرية، وكيف نتعامل مع الموت، بل كيف نواجه فقدان الأحبة إلى آخر ما يثير عقل الإنسان ووجدانه في خضم صراعاته اليومية. الأمر الذي يجعل رواياته قادرة على مخاطبة أي قارئ يمتلك قدرًا من الذكاء والحصافة، بل إسعاده وإمتاعه بما يتحصل عليه من معارف جمة ومشاعر فياضة في أثناء القراءة.
3- تنوع الإنتاج المحفوظي بشكل لافت ومثير هو السبب الثالث الذي يدفعنا إلى قراءة محفوظ مرة تلو الأخرى، وهنا أتحدث عن تنوع العالم الروائي فحسب، ولا أتطرق إلى ما كتبه من قصص قصيرة ومسرحيات وأحلام وأصداء وهو إنجاز آخر بالغ الأهمية لسنا بصدد مناقشته الآن، ذلك أن العالم الروائي عند هذا العبقري بالغ التنوع والتكثيف، فقد أبحر الرجل في أنهار كثيرة، حيث كتب في بداياته الرواية التاريخية الصريحة أمثال (عبث الأقدار 1939/ رادوبيس 1943/ كفاح طيبة 1944)، ثم انتقل إلى ما يسمى بالرواية الواقعية أمثال (القاهرة الجديدة 1945/ خان الخليلي 1946/ زقاق المدق 1947/ السراب 1948/ بداية ونهاية 1949)، ثم اختتم هذه المرحلة الثرية بتحفته الخالدة الثلاثية (بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية) التي انتهى من كتابتها في عام 1952، لكنها نشرت كلها في عامي 1956، 1957.
بعد ذلك اقتحم محفوظ بقوة عالم الرواية (الفلسفية) إذا جاز القول، الرواية التي تناقش القضايا الفلسفية الإنسانية الكبرى حول الكون والله والدين والموت والحب والجنس إلى آخره، لكن دون صخب أو ضجيج أو افتعال، وإنما في قالب روائي متعدد المستويات يهب كل قارئ المتعة التي تناسب ذائقته وثقافته (أفتح هذا القوس لنتذكر معًا روايات: أولاد حارتنا/ اللص والكلاب/ السمان والخريف/ الطريق/ الشحاذ/ ثرثرة فوق النيل/ ميرامار، وكلها نشرت في ستينيات القرن الماضي). هذا الثراء الروائي العظيم يحتم علينا أن نعاود قراءة محفوظ باستمرار لنتعلم ونستفيد ونستمتع.
4- (الحرافيش) الرواية الأعظم في تاريخنا الأدبي كله، وأتخيل أنها واحدة من أهم الروايات التي كتبت في تاريخ الإنسانية كلها منذ افتتح الأسباني سير فانتس دنيا الرواية بعمله الشهير (دون كيشوت) عام 1605، والتي تعد أول رواية بالمعني الحديث. إن قراءة (الحرافيش) بتمهل أمر ضروري لكل من أدركته حرفة الأدب، ذلك أن محفوظ كتبها وقد تجاوز الخامسة والستين (صدرت عام 1977)، أي أنه أبدعها وقد صار شيخًا كبيرًا أدرك الحياة ومكائدها وحلاوتها، كما أتقن لغته وصنعته أيما إتقان، الأمر الذي يضع الحرافيش في موضع سامق لا تصل إليه أية رواية أخرى. صحيح أنه كتب روايات آسرة بعد الحرافيش مثل أفراح القبة/ ليالي ألف ليلة/ رحلة ابن فطومة/ العائش في الحقيقة وغيرها، لكن تظل الحرافيش جوهرة التاج المحفوظي بامتياز.
5- أصالة الحبكة الروائية ومتانتها هي السبب الخامس، فمن يقرأ أعمال محفوظ تستغرقه الوقائع والأحداث بما تتضمنه من صراعات وتشابكات وانفعالات، فلا يعتريه الملل، أو ينتابه الضجر، فالرجل يعرف جيدًا كيف يصوغ رواية محكمة البناء، لا ترهل فيها ولا اضطراب في المعمار الروائي، وهو بذلك يعطي القارئ والمتخصص درسًا في كيفية صناعة عمل روائي جذاب قادر على إشاعة أكبر قدر من التشويق والإثارة والبهجة في نفس كل متلق وعقله ووجدانه. كما أنه خلال رحلته الإبداعية الطويلة تمكن من استخدام أكثر من معمار روائي يسكب فيه أفكاره ورؤاه، فهناك الرواية التي يتصدرها ما يسمى بالراوي العليم، مثل (خان الخليلي والثلاثية)، وهناك راوية تتكئ على ما يسمى بتعدد الأصوات مثل (ميرامار)، وهناك روايات تنهض على فكرة تيار الوعي مثل (الشحاذ)، كل هذا التنوع في البناء الروائي يزيد من رصيد محفوظ في بنك الرواية، وهو بلا ريب صاحب أكبر رصيد في هذا البنك.
6- الأسلوب، وما أدراك ما الأسلوب عند نجيب محفوظ، إنه أقصى ما بلغه النثر العربي من عذوبة ورشاقة وعمق، وإذا كان طه حسين والذين معه قد انتشلوا النثر العربي من مستنقع الركاكة التي أمسكت بخناقه قرونا طويلة حتى مطلع القرن العشرين، فإن محفوظ قاد ثورة كبرى ليصل بالنثر العربي إلى مستويات غير مسبوقة من الجمال والطلاوة والعمق الذي يوائم طبيعة العصر ويلبي أشواق الناس إلى لغة جديدة مؤثرة، ولعلك تلاحظ بسهولة تطور الأسلوب عند محفوظ، فمن يقرأ خان الخليلي مثلا، سيلحظ الفرق بينها وبين الحرافيش والعائش في الحقيقة، كما سينتبه إلى الوثبات الجميلة الرائعة التي حققها محفوظ في فن النثر بامتداد نصف قرن، ما يعني أن الرجل ظل مخلصًا للغة العربية عاكفا على تفجير طاقتها الخلابة بكل ما يملك من موهبة ودأب وإصرار.
لكل هذ الأسباب مجتمعة يتحتم علينا العودة إلى قراءة محفوظ بانتظام، وبالنسبة لي ، فأنا أقوم بزيارة الحرافيش مرة كل عام منذ أكثر من أربعين سنة، فكلما اطلعت عليها اكتشفت الجديد، وهنا تكمن العبقرية في أي عمل عظيم. إنه قادر على إتاحة المتعة المتجددة في كل مرة نعاود قراءته أو الاطلاع عليه.
باختصار… نجيب محفوظ بلغ شأوًا عظيمًا لم يبلغه أحد قبله، وأظن أن علينا الانتظار لعقود طويلة إذا كنا نطمع في أن يهبنا القدر واحدًا يملك موهبة خارقة مثل موهبته. إن محفوظ مثل أم كلثوم وعبدالوهاب… إنهم معجزات بشرية أضاءت حياتنا بالموسيقى والطرب والفن الروائي المشرق.
* نص الورقة التي كتبتها واستوحيت منها كلمتي أمس في الجلسة التي نظمتها مكتبة محمد بن راشد بدبي وتشرفت بمشاركة الناقد الكبير الأستاذ الدكتور جمال المقابلة، وأدارتها باقتدار الروائية الإماراتية المتفردة الأستاذة فتحية النمر.
 
ads

اضف تعليق