ads
رئيس التحرير
ads

 حفظ الأوطان.من علامات الإيمان!..أ.د. محمد عمر أبوضيف: أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بسوهاج ، وعميد الكلية سابقا.

الأحد 13-11-2022 23:46

كتب

الأوطان هي مأوي أصحابها وعزهم، ومستقر أبدانهم، ومستراح أرواحهم،

ومصدر فخرهم، علي أرضها ولدوا، وفوق تربتها نشأوا ، وبين أنحائها لعبوا وشبوا، وفي ربوعها اكتهلوا وشاخوا، وبين أطباق ثراها يقبرون.
وعليها يعبدون ربهم، ويقيمون دينهم، ويؤدون شعائرهم: يصلون، ويصومون، ويقرؤون كتابهم،

ويذكرون ربهم، ويتعبدون كما يشاؤون؛ لهذا وغيره كانت الأوطان للنفوس السوية، والفطر الطبيعية تساوي الأرواح، ولا يعدلها عند العقلاء شيء، وهذا ما أكده لنا القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال مولانا تبارك وتعالي: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ سُورَةُ النِّسَاءِ: ٦٦.
فقد جعل الله تعالى الإخراج من الديار يعادل ويساوي قتل النفس ، وهذا حق؛ فكثير ممن نفي عن دياره وأخرج من بلاده كان أهون عليه الموت، ولو طالعت كلام الشعراء الذين غُربوا عن ديارهم لفهمت بعض ما يعانون، ووصل إليك جزء مما يشعرون، كابن زيدون، وشعراء المهجر، والبارودي، وشوقي…
وقد بين أمير الشعراء أهمية الوطن وأنه لا يشغل عقل أبنائه عنه أي شئ ولو كان الخلود:
وطَني لَو شغِلتُ بِالخلدِ عَنهُ …. نازَعَتني إِلَيهِ في الخلدِ نَفسي
وقبل هذا البيت بث أشواقه لوطنه ،وصرح بلواعجه ومدي ما يعانيه من بعده عنها، ويقاسيه في فراقها:
وسَلا مِصْرَ هَلْ سَلا القلْبُ عَنْها … أَوْ أَسَا جرْحَهُ الزَمانُ المُؤَسِي؟
كُلَّمَا مرَتِ اللَّيالي عَلَيْه … رَقَّ والعَهْدُ في اللَّيالي تُقسِي
مُسْتطارٌ إذا البَواخِر رَنَّتْ … أوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ عَوتْ بَعْدَ جَرْسِ
رَاهِبٌ في الضُلوعِ للسُفْنِ فَطْنٌ … كُلَّمَا ثُرْنَ شاعَهُنَّ بنَقْسِ
فحب الوطن والتعلق به شاهد علي رقي النفس ،وسمو الروح ،ونقاء الفطرة ؛لذا تراه واضحا جليا في أنقي الفطر، وأطهر النفوس ،وهم الأنبياء ،يقول الجاحظ في رسائله: “ومِن أصدق الشواهد في حب الوطن أن يوسف عليه السلام لَمَّا أدركته الوفاة أوصى أن تحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام، ورُوِي لنا أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف مِن حمله، فلما بعث الله موسى عليه السلام وأهلَك على يدَيْه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمته إلى تربة يعقوب بالشام، وقبره علم بأرض بيت المقدس بقرية تسمى حسامي، وكذلك يعقوب مات بمصر فحملت رمته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام”.
وسيد المحبين وإمام النبيين هو النموذج الأرقي لحب الوطن والحنين إليه فهو الذي عشق تراب بلده و أحبَّ وطنَه وهام به، فحين أخبره وَرَقةُ بن نَوْفَل أنه قومه سيُخرِجونه من وطنه، استغرب واستبشعه فقال صلى الله عليه وسلم منكرا: أَوَمُخْرِجيَّ هم؟!، فهو يتقبل رفضهم لدعوته فالمرء عدو ما يجهل ،وحربهم لرسالته؛ لأنها تناقض ما نشأوا ووجدوا أباءهم عليه ،فلم يسأل عن ذلك ،لكن استعجب من طرده من بلده ،واستغرب اخراجه من وطنه قسرا وقهرا، فكان هذا محل سؤاله ومناط استفساره ،فهذا للنفوس الأبية والأرواح الصافية والقلوب السوية أشد أنواع العذاب ,وأعظم درجات القهر للرجال؛ ولذا قال سيدنا عليه الصلاة والسلام مخاطبًا بلده ومنشأه ومرتع صباه وحاضنة شبابه:” إنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.
و من أكبر مقاييس الرجال عند العرب حب الأوطان ،يقول الأصمعي: سمعتُ أعرابيًّا يقول: إذا أردتَ أن تعرف الرجل فانظر كيف تَحبُّبُه إلى أوطانه، وتشوُّقُه إلى بلدانه.
وقد علل ذلك ابن الرومي في قوله :
وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ… مآربُ قضَّاها الشبابُ هُنالِكا
إذا ذكَرُوا أوطانَهم ذكَّرتْهمُ … عهودُ الصبا فيها فحنُّوا لذالكا
وعندما يفارق الحر وطنه مكرها ويخرج منه مجبرا ،تمرض روحه ويعتل قلبه ويسقم بدنه وربما أدي ذلك لهلاكه
فعندما أُخرج سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه من مكة وهاجر فارا بدينه إلي المدينة أصابته الحمى فأنشد قائلا :
ألا ليتَ شِعْرِي هل أبيتنَّ ليلةً …. بوادٍ وحَوْلي إِذْخرٌ وجَلِيلُ
وهَلْ أَرِدَنْ يومًا مياهَ مجنَّةٍ…. وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفيلُ
ودعا علي من أخرجوه قائلا : اللهم العَنْ عُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأميَّة بن خلف، كما أخرجونا من مكة.
وكان قد سبقه سيدنا أبو بكر في إصابته بالحمي كما في حديث أمنا عائشة في البخاري: فبعد الهجرة مرض و اشتكى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ، وكان إذا أخذته الحمى يقول:
كلُّ امرئ مصبَّحٌ في أهلِه … والموتُ أدنى مِن شِراكِ نَعْلِهِ
وجميع الصحابة المهاجرين ما ذكرت أمامهم مكة أو سمعوا شيئا عنها إلا أنّوا وحنوا وبكوا وشكوا وتساقطت دموعهم وتتابعت عبراتهم، فعندما ” قَدِمَ أَصِيلٌ الْهُذَلِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَا أَصِيلُ ، كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ ؟ ” قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَسَنَ أَبْطُحُهَا وَانْتَشَرَ سِلْمُهَا ، وَأَعْذَقَ ثِمَارُهَا ، وَأَحْجَرَ إِذْخِرُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” وَيْهًا يَا أَصِيلُ ، دَعِ الْقُلُوبَ تُقِرُّ قَرَارَهُ ”
فلما رأي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم حب الوطن والشوق إليه يكاد يتلف أصحابه ويودي بأحبابه تضرع إلي ربه سائلا:” اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكةَ أو أشد، اللهم صحِّحها وبارِك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمَاها إلى الجُحفة”.
والزهاد العباد لا يستطيعون أن يتحللوا من هذا الحب الفطري فقد يزهدون في الدنيا وكنوزها وجمالها ورياشها وجاهها وسلطانها لكنهم لا يستطيعون أن يخرجوا من قلوبهم حب الأوطان يقول إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : ما عالجتُ شيئًا أشد من منازعة النفس للوطن.
والسبب في ذلك يوضحه ابن الجوزي بقوله: وفطرة الرجل معجونة بحب الوطن، ثم إن الإبل تحن إلى أوطانها، والطير إلى أوكارها. فالفطر من وطنها وخليط ترابه ومزيج طينته ،قد صنع الخالق ذلك في النفوس ليعمر الدنيا ،ويصلحها علي أيد الانسان كل في وطنه يقول سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: عمرت الدنيا بحب الأوطان.
فالوطن غالٍ نفيس ثمين لا يعدله شيئ عند الأسوياء الأصفياء حتي وإن لم يجدوا فيه ما يأملون ،وعز عليهم منه ما يطلبون ، لكن هو السكن والسكينة والراحة والقرار، نذكر هنا السيدة: ميسون بنت بحدل، أم يزيد بن معاوية، التي جاء بها معاوية من البدو وأسكنها قصور الملوك ، وديار الأمراء ،وبيوت السادة، ولكن كل ذلك لم ينسها وطنها ،ولم يشغلها عن بلدها ،فاشتاقت وحنت وبكت وأنت ،وعلم ذلك معاوية فلامها وعيرها بفقر وطنها وشظف عيش بلدها ذاكرا ما هي فيه من النعيم ،وما تحيا فيه مما لا يحلم به أكابر قومها وسادتهم فردت عليه :
لَبَــيْـتٌ تـخـفِـقُ الأرواحُ فـيـه أحــبُّ إليَّ مــن قــصــرٍ مُــنـيـفِ
وأصــواتُ الريــاحِ بــكــل فَــجٍّ أحــبُّ إلي مــن نَــقْـر الدُّفـوفِ
وبـكْـرٍ يـتْـبَـعُ الأظْـعـانَ صَـعْبٌ أحـــبُّ إلى مـــن بَــغْــلِ زَفُــوفِ
وكــلبٌ يــنــبـح الطُـرَّاق عـنّـي أحـــــبُّ إليَّ مـــــن قِــــطٍّ ألوفِ
ولُبْــسُ عــبـاءةٍ وتـقَـرُّ عـيْـنـي أحــبُّ إليَّ مــن لِبْــسِ الشُّفــوفِ
وأكْـلُ كُـسَـيْـرَة فـي كِـسْرِ بَيْتي أحــبُّ إليَّ مــن أَكْــلِ الرَّغـيـفِ
وخَــرْقٍ مِـن بـنـي عـمـي نـحـيـفِ أحـــبُّ إليَّ مـــن عِــلْجٍ عــليــفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى إلى نـفـسي من العيشِ الظَّريفِ
فـمـا أبْـغـي سوى وطني بديلا فـحـسـبـي ذاكَ مـن وطـن شـريِـف
لذا من رُزق وطنا آمنا، ووجد فيه رزقه ولو كفافا، مع عافية بدن، وحرية إقامة شعائره، وأداء عبادته؛ فقد أبلغ الله عليه النعمة، ومنّ عليه منة عظيمة، تستوجب حمدا، وتستلزم شكرا، وتستحق اللهج بالدعاء، ودوام التضرع إلى الكريم أن يديمها، ويحفظها، ويتمها على خير، في صحة أبدان، وعافية، وستر، وسلامة أديان، وإخلاص لله، حتى نلقاه غير فاتنين ولا مفتونين.
نسأل الله أن يجنبنا في أوطاننا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعل بلادنا سخاء رخاء وسائر بلاد.

أ.د. محمد عمر أبوضيف: أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بسوهاج ، وعميد الكلية سابقا.

ads

اضف تعليق