ads
رئيس التحرير
ads

د.نظيرعيادأمين عام مجمع البحوث الإسلامية خلال احتفالية الأزهر الشريف باليوم العالمي للغة العربية؛ اللغة العربية هوية الأمة، وسبيل مجدها، وتاريخ حضارتها، ورمز عزتها.

الثلاثاء 28-12-2021 23:56

كتب

إبراهيم شحاته
نص كلمةد.نظيرعيادأمين عام مجمع البحوث الإسلامية خلال احتفالية الأزهر الشريف باليوم العالمي للغة العربية؛ 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ والعاقبةُ للمتقينَ ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ وأصليْ وأسلمُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ خيرُ من نطقَ بلغةِ الضادِ، أصدقُ الناسِ لسانًا وأفصحُهم بيانًا، وأبلغُهم كلامًا، اللهم صلِّ وسلمْ وباركْ عليه وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ وبعدُ،،،
فمعلومٌ أنَّ كلَ أمةٍ من الأممِ تفتخرُ بلغتِها وتعتزُ بها وتعتقدُ أنها أفضلُ اللغاتِ، ولا عجبَ في ذلك، فاللغةُ هي هويةُ الأمةِ وسبيلُ مجدِها وتاريخُ حضارتِها، كما أنها بالنسبةِ للأممِ جميعًا أداةُ تواصلِها وطريقةُ تفكيرِها، ورمزُ عزتِها، ومصدرُ فخرِها، وأسلوبُ حياتِها، لكنها للأمةِ العربيةِ كلُ هذا وتزيدُ عليه أنها لغةُ دينِها وكتابُ ربِّها، جعلَ اللهُ فهمَها ضرورةً وتعلُمَها شرفاً، لهذا كان ارتباطُ المسلمِ بلغتِه مختلفًا عن ارتباطِ أيِّ إنسانٍ بأيةِ لغةٍ أخرى، إذ لا يستطيعُ المسلمُ أن يقرأ كتابَه بغيرِ لغتِه التي نزلَ بها، كما لا يتأتَى له القيامُ بأداءِ شعائرِهِ وإتمامِ عباداتِهِ بدونِها.
فهي وسيلةُ المسلمِ لفهمِ مقاصدِ النصِ القرآنيِّ ومعانيِهِ وغاياتِهِ الكبرى المتمثلةِ في تلقِي الأحكامِ الشرعيةِ منه، ولذلك استعانَ العلماءُ باللغةِ العربيةِ وفنونِها في فهمِ مرادِ اللهِ في كتابِه والكشفِ عن أسرارِه، وتحديدِ دلالاتِهِ.
لهذا نظرَ إليها العلماءُ على أنها من الدينِ حيثُ إنَّ فهمَ مرادِ القرآنِ والسنةِ من أوجبِ الواجباتِ، وما لا يتمُ الواجبُ إلا بهِ فهو واجبٌ، يقول ابنُ فارسٍ عن وجوبِ تعلمِ العربيةِ: “إن العلمَ بلغةِ العربِ واجبٌ على كلِ متعلمٍ من العلمِ بالقرآنِ والسنةِ والفُتْيَا بسببٍ، حتى لا غَنَاءَ بأحدٍ منهم عنه؛ وذلك أن القرآنَ نازلٌ بلغةِ العربِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم عربيٌّ. فمنْ أرادَ معرفةَ ما في كتابِ اللهِ جل وعز، وما في سنةِ رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلمَ من كلِ كلمةٍ غريبةٍ أو نظمٍ عجيبٍ، لم يجدْ من العلمِ باللغةِ بُدًّا».
وقال الشاطبي: ” لَا بُدَّ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مِنِ اتِّبَاعِ مَعْهُودِ الْأُمِّيِّينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَرَبِ فِي لِسَانِهِمْ عُرْفٌ مُسْتَمِرٌّ، فَلَا يَصِحُّ الْعُدُولُ عَنْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْرَى فِي فَهْمِهَا عَلَى مَا لَا وَهَذَا جارٍ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ “.
وعلى هذا يتضحُ لنا أن معرفةَ اللغةِ العربيةِ شرطٌ في فهمِ القرآنِ الكريمِ لأنَّ من رام تفسيرَه، وسعى إلى الكشفِ عن مضامينِه والوقوفِ على أسرارِه وقوانينِه، وهو لا يعرفُ لغتَه التي نزلَ بها فإنه لا شكَ سيقعُ في الزَّللِ، ولن يخلوَ قولُهُ من خللٍ فمن قالَ إنه يفهمُ القرآنَ الكريمَ دونَ حاجةٍ إلى اللغةِ العربيةِ فقد قال مُحَالا وادَّعى مستحيلًا.
ويؤكد هذا ما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مصنَّفه؛ حيث قال: “كتب عمر إلى أبي موسى: أَمَّا بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ”.
وفي أثرٍ آخر عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قال : “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ.”. كما جاء -أيضًا- في مصنفِ ابنِ أبي شيبة: وَسَأَلْت الْحَسَنَ فَقَالَ: أَمَا بَلَغَك مَا كَتَبَ بِهِ عُمَرُ أَنْ تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ وَحُسْنَ الْعِبَادَةِ وَتَفَقَّهوا فِي الدِّينِ.” وجاء فيه -أيضًا- قولُه: “حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: كَلامُ أَهْلِ السَّمَاءِ الْعَرَبِيَّةُ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾”.[الزخرف: 1-4]
وهذا الذي أمرَ به سيدنُا عمرُ -رضي الله عنه- من فقهِ العربيةِ، وفقهِ الشريعةِ يؤكدُ أهميةَ اللغةِ العربيةِ ومكانتَها في الدينِ، ودورَها في فهمِ حقائقِهِ.
وهذا ما أكَّده أبو الوليدِ بنُ رشدٍ في جوابٍ له عمن قال: إنه لا يحتاجُ إلى لسانِ العربِ، هل يلزمه شيءٌ؟ فقال: هذا جاهلٌ فلينصَرِفْ عن ذلك، وليَتُبْ منه؛ فإنَّه لا يصحُ شيءٌ من أمورِ الديانةِ والإسلامِ إلَّا بلسانِ العربِ، يقول الله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:195] فقال له السائل: إنَّ قائلَ هذا القولِ ليسَ بجاهلٍ، ولكنْ ممنْ يقرأُ الحديثَ والمسائلَ، فقال: وإنْ كانَ، فإنَّ هذا منه جهلٌ عظيمٌ، فقال له: تبْ منه، وأقلعْ عنه، ولا يلزمْه شيء، إلَّا أن يرى أنَّ ذلك منه لِخبثٍ منه في دينِهِ، أو نحو ذلك، فيؤدبُه الإمامُ على قولهِ ذلك، بحسَبِ ما يرى، فقد قالَ قولًا عظيمًا.”
فهذه الأقوال، وغيرها كثيرٌ تدلُ على أن كلَ من أرادَ فهمَ معانِي القرآنِ ومعرفةَ مرامِيه، والوقوفَ على أسرارِه لا بدَّ أن يكونَ متمكنًا من اللغةِ العربيةِ باعتبارها أهمَ أدواتِ التفسيرِ للقرآنِ الكريمِ.
فاللغةُ العربيةُ مهمةٌ جدًا للعلومِ الشرعيةِ بشكلٍ عامٍ، ولعلومِ القرآنِ والتفسيرِ بشكلٍ خاصٍ؛ ومن ثَمَّ فقد أَوْلاها العلماءُ موفورَ العنايةِ، ومزيدَ الاهتمامِ، ولا غَروَ في ذلك حيث إنَّ فضائلَ القرآنِ الكريمِ على العربيةِ أكثرُ من أن تُعَدَّ وأعظمُ من أن تُحْصى، فقد شاءتْ إرادةُ اللهِ -تعالى- أن يكونَ آخرُ الكتبِ السماويةِ نزولًا هو القرآنَ الكريمَ الذي نزلَ بلسانٍ عربيٍ مبينٍ، هذا اللسانُ الذي كانَ العربُ يَنْظِمُونَ به أشعارَهم، ويُلقُون به خطبَهم، ويكشفُون به عن مجدِهم، ويقارنون به بينَهم وبينَ غيرِهم؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف:2] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 103] وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء] وقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7] وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الزخرف: 3].
فهذه النصوصُ وإن كشفتْ لنا عنْ نزولِ القرآنِ باللسانِ العربيِ المبينِ إلا أنها في الوقتِ ذاتِه تكشفُ عن فضلِه على العربيةِ وأصحابِها؛ حيث إنَّ القرآنَ الكريمَ خُصَّ دونَ غيره، وانفردَ دون سواهُ من الكتبِ المُنَزَّلَةِ بالمحافظةِ على لغتهِ الأصيلةِ، فكان من آثارهِ عليها: ثباتُ ألفاظِها لارتباطِ الشريعةِ وتفاصيلِها بها، ليس هذا فحسبْ، بل لقدَ كان القرآنُ الكريمُ المصدرَ الأولَ الذي انبثقتْ منه العلومُ الشرعيةُ؛ كالتفسيرِ، والفقهِ، والحديثِ وعلومِه، والقراءاتِ وأصولِ الفقهِ والعقيدةِ وغيرها، … صحيحٌ كانت العلومُ ممتزجةً فيما بينَها امتزاجًا شديدًا، فلم يكن ثمةَ تحديدٌ دقيقٌ للأطرِ أو الدوائرِ التي يختصُ بها علمٌ دونَ الآخَرِ، حيث يجد الباحثُ فيما يجدُ علمًا قائمًا بذاتِه اسمُه علمُ النحوِ، وعلمًا آخر اسمُه علمُ التفسيرِ، وعلمًا ثالثًا اسمُه مصطلحُ الحديثِ، ورابعاً اسمُه العقيدةُ، لكل هذا حرَصَ العلماءُ على دراسةِ اللغةِ وارتبط َ ذلك بحرصِهم على فهمِ القرآنِ من جهةٍ ودراسةِ لغتهِ من جهةٍ أخرى باعتبارِها مصدرَ العقائِد والأحكامِ والتشريعاتِ.
إن مِثلَ هذا يجعلنا نقولُ: لقد أعطى القرآنُ الكريمُ اللغةَ العربيةَ أكثرَ من كونِها لغةً، فقد حافظَ عليها بحفظِ اللهِ تعالى له، قال تعالى: ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9)، فاستمدتْ منه كمالَها وجلالَها وجمالَها، فكان لها سببًا من أسبابِ السماءِ وهذا ما عبرَ عنه الثعالبيّ بقوله: ” إنَّ مَنْ أحبَ اللهَ تعالى أحبَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحبَّ الرسولَ العربيَ أحبَّ العربَ ومن أحبَّ العربَ أحبَّ العربيةَ التي بها نزلَ أفضلُ الكتبِ على أفضلِ العَجَمِ والعربِ ومن أحبَّ العربيةَ عُنِيَ بها وثابَرَ عليها وصرفَ همَّتَه إليها”.
بجانبِ هذا فإنَّ اللغةَ العربيةَ هي لسانُ أهلِ الجنةِ، وهذا دليلُ فضلِ الإسلامِ على العربيةِ وأهلها، يقول الفارابي الفيلسوف في ذلك: هذا اللسانُ كلامُ أهلِ الجنةِ وهو المُنَزَّهُ من بينِ الألسنةِ من كلِّ نقيصةٍ والمُعَلَّى من كلِ خسيسةٍ والمهذَّبُ مما يُسْتَهجنُ أو يُسْتَشْنعُ فبنى مبانيَ باينَ بها جميعَ اللغاتِ من إعرابٍ أوْجدَه اللهُ لهُ وتأليفٍ بينَ حركةٍ وسكونٍ حلاَّه به فلمْ يجمعْ بين ساكنينِ أو متحرِّكينِ متضادينِ ولم يُلاقِ بينَ حرفينِ لا يأْتلفانِ ولا يَعْذُبُ النطقُ بهما أو يَشْنَعُ ذلك منهما في جَرْسِ النَّغَمَةِ وحسِ السمعِ كالغينِ مع الحاءِ والقافِ مع الكافِ والحرفِ المُطْبَقِ مع غيرِ المطبقِ مثلَ تاءِ الافتعالِ مع الصادِ والضادِ في أخواتٍ لهما والواوِ الساكنةِ مع الكسرةِ قبلَها والياءِ الساكنةِ مع الضمةِ قبلها في خِلالٍ كثيرة من هذا الشكل لا تُحْصَى..
فاللغةُ العربيةُ فضلُها كبيرٌ وشأنُها عظيمٌ ويكفي أنها انتقلتْ من كونِها لغةَ شعبٍ وإقليمٍ إلى لغةٍ كونيةٍ حين غدتْ لغةً سماويةً، لغةَ القرآنِ الكريمِ، وبالتالي فقد حَوَت عقيدةً كونيةً أعلنتْ عن نفسِها عقيدةً للبشرِ عامةً، وهذا ما جعلَ العربيةَ في أقلِ من قرنٍ، لغةً عالميةً كبرى تشكلتْ في أُطُرِها وسياقاتِها أسسَ الحضارةِ الكونيةِ العظمى التي سادتْ العالم قروناً عديدةً، وامتدتْ على مساحاتٍ شاسعةٍ من قاراتِ العالمِ القديمِ، وغدتْ لغةَ الحضارةِ الإنسانيةِ التي انحلتْ في بوتَقَتِها لغاتٌ وحضاراتٌ متعددةٌ، وشكّلتْ بالتالي حَلْقَةً محوريةً في الحَلَقَات الحضاريةِ الإنسانيةِ الكبرى. وقد قُدِّرَ لها البقاءُ دونَ تحريفٍ قبلَ الإسلامِ ثم زادها اللهُ تعالى عزةً وشرفًا وكرامةً بأن اختارها لغةً لكتابِه فحُفِظَتْ بحفظِه ورُفِعَ شأنُها بسببِه.
وبالجملةِ فإن ظاهرةَ الامتدادِ التاريخيِ غيرَ المنقطعِ للعربيةِ يعودُ إلى نقطةِ التحولِ الكبرى في تاريخِ العربِ، التي يمثلُها الدينُ الإسلاميُ وكتابُه المقدسُ القرآنُ الكريمُ الذي غَيَّرَ العالمَ، وحَفِظَ العربيةَ لغةً مقدسةً، ولغةَ حضارةٍ وفكرٍ إنساني.
لقد كانَ الإسلامُ نقطةَ انطلاقٍ للعربيةِ من لغةٍ قوميةٍ محصورةٍ في إطارٍ قومِيّ جغرافِيّ محدودٍ إلى لغةٍ عالميةٍ، لغةٍ تجاوزتْ الأُطرَ الجغرافيةَ والقوميةَ لتغدوَ لغة َحضارةٍ كونيةٍ فَرَضَتْ سيطرتَها طيلةَ قرونٍ عديدةٍ وامتدتْ على مساحةِ قاراتِ العالمِ القديمِ، تاركةً آثارَها العميقةَ على كلِ الشعوبِ التي دخلتْ في الإسلامِ وتعربتْ، والتي احتفظتْ بلغاتِها الأصليةِ، كما هي الحالُ في اللغةِ الفارسيةِ والتركيةِ والأرديةِ، ولكنها وقعتْ تحتَ تأثيرِ العربيةِ لغةِ القرآنِ على نحوٍ كبيرٍ، تأثيرٌ ظهرَ في كتابةِ هذه اللغاتِ بالحروفِ العربيةِ، وفي تبني عددٍ كبيرٍ من مفرداتِها وصورِها ومصطلحاتِها.
لقد كانتْ العربيةُ لغةَ حضارةٍ كونيةٍ تأسستْ انطلاقاً من العقيدةِ الإسلاميةِ وكتابِها الكريمِ الذي يمثلُ نموذجَها الأعلى والذي حَفِظَها حيةً متجددةً، وهي إلى هذا لم تتحولْ إلى لغةٍ لاهوتيةٍ، مثلَ بعضِ اللغاتِ الأخرى، بل ظلتْ عبرَ القرونِ لغةَ الحياةِ والعلمِ والفكرِ الإنسانيّ، وكلُ هذا يؤكدُ على فضلِ الإسلامِ على العربيةِ وأهلِهَا، الأمرُ الذي يدفعَنُا إلى ضرورةِ التمسكِ بها، والحفاظِ عليها والعملِ على استعادةِ مكانتِها خصوصًا مع كثرةِ التحدياتِ وتعددِ المعوقاتِ التي تعملُ على وَأْدِ اللغةِ والاستهانةِ بها والخروجِ بها والدعوةِ إلى استبدالِها أو العملِ على تغييرِها أو على الأقلِ مسخِها باعتبارِ ذلك يؤدي إلى مسخِ الهويةِ، وغيابِ صورةِ الشخصيةِ التي كونَتْها هذه اللغةُ باستنباطِ نصوصِ الدينِ قرآنًا وسنةً.
إن العربيةَ اليوم تعانِي ما تعانِيه الأمةُ، ولكنها تملكُ على الرغمِ من كلِ ما أصابَها ويصيبُها مِنْ وَهَنٍ ومِنْ جنايةِ أبنائِها عليها عناصرَ قوةٍ تمكنُها من التجددِ والانتشارِ، لكونِها مرتكزَ العقيدةِ الإسلاميةِ، ولغةَ حضارةٍ كونيةٍ ما زالتْ تفرضُ حضورَها في العالمِ حتى يومِنا هذا، ولغةً تمتازُ بمرونةٍ وقابليةٍ غيرِ محدودةٍ للتعبيرِ عن الفكرِ والعلمِ والمعارفِ الإنسانيةِ. ولو أُتِيحَ لها حركةُ ترجمةٍ مبدعةٍ شبيهةٌ بمثيلتِها في القرنينِ الثالثِ والرابعِ الهجريينِ لكنا اليومَ أمامَ نموذجٍ متفوقٍ للغةِ تعليمٍ في الجامعاتِ بدلا من استعمالِ لغةٍ أو لغاتٍ أجنبيةٍ أو هجينةٍ.
 
 
 
 
 
 
ads

اضف تعليق